بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 29 ديسمبر 2014

التحديات التي تواجه الاتحاد ألأوروبي




لأكثر من ستة عقود من الزمان، كانت عملية التكامل الأوروبي في تطور مطَّرِد. وكل خطوة تم اتخاذها، بداية من الاتحاد الأوروبي للفحم والصلب إلى الاتحاد الأوروبي اليوم، كانت تسعى إلى تحقيق الصالح المشترك وتستند إلى قيم مشتركة (الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية) وأهداف مشتركة (النمو الاقتصادي، والرخاء، وتوطيد مكانة أوروبا على الصعيد الدولي). وفي العام المقبل، ستكون نتيجة كل هذا ــــ القواعد والمؤسسات المشتركة التي أقامها الأوروبيون بشق الأنفس ــــ موضعاً للاختبار على نحو لم يسبق له مثيل. في عام 2011، بدأت المؤسسات الأوروبية تهتز، بعد أن انتقلت أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو ــ التي حركتها الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي اندلعت في عام 2008 ــــ من البلدان الواقعة على أطراف منطقة اليورو إلى البلدان الواقعة في مركزها. والواقع أن قدرة الاتحاد الأوروبي على المقاومة ــــ بل وقدرته على البقاء ــــ أصبحت محل تشكيك في وقت من التحولات الجغرافية السياسية العميقة، حيث باتت أوروبا الأكثر قوة ضرورة أساسية.
إن القوة العالمية تتحول الآن باتجاه آسيا ومنطقة الباسيفيكي. كما ظهرت قوى فاعلة جديدة غير حكومية ــــ اكتسبت نفوذاً في الآونة الأخيرة ــــ وبدأت في بعض الحالات (المنظمات الإرهابية على سبيل المثال) في تعريض قدرة الدول على ضمان الأمن القومي للخطر. وأصبح الانتشار النووي بمثابة تهديد متزايد، كما أظهر التقرير الأخير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن إيران. وفي الوقت نفسه كان التقدم على مسار العديد من القضايا العالمية الحاسمة ــــ وخاصة أمن الطاقة وتغير المناخ ــــ محبطاً إلى حد كبير. وتستمر ويلات الفقر والمجاعة ــــ التي أصبحت بالغة الخطورة بشكل واضح في الصومال اليوم ــــ في الإساءة لفكرة الحضارة ذاتها.
وكل هذا يتناقض بشكل صارخ مع التوقعات لعالم ''ما بعد التاريخ'' المسالم الذي يمكننا من التكهن بتطوراته، والتي كانت سائدة في أعقاب نهاية الحرب الباردة. والآن تتحدى الثورات العربية، التي ما كان أحد ليتصور اندلاعها قبل عام واحد، النظام الإقليمي الذي ساد لأكثر من نصف قرن من الزمان. وبفضل كارثة التسونامي اليابانية أصبح مستقبل الطاقة النووية موضعاً للتشكيك في مختلف أنحاء العالم. ولعل الأمر الأكثر لفتاً للانتباه أن الانحدار النسبي العالمي للولايات المتحدة، التي كانت بمثابة المرتكز الاقتصادي والأمني للعالم منذ عام 1945، بات ملحوظاً على نحو لا لبس فيه في عام 2011، وانعكس في الاستقطاب والشلل السياسي ــــ وتخلله خفض التصنيف الائتماني.
لذا فإن التحديات الاستراتيجية التي تواجه الاتحاد الأوروبي هائلة. ولكي يتسنى للاتحاد الأوروبي أن يتصدى لهذه التحديات فيتعين عليه أولاً أن يستعيد مصداقيته الدولية. منذ تبني معاهدة لشبونة في عام 2009، تم إحراز تقدم كبير ــــ ولا بد أن يستمر هذا التقدم ــــ نحو إصلاح وتنظيم النظام المالي. ولكن العديد من القرارات جاءت متأخرة أكثر مما ينبغي أو لم تذهب بعيداً بالقدر الكافي للتعامل مع خطورة الأزمة، وهو القصور الذي قد يؤدي إلى عواقب بعيدة المدى.
واليوم بات لزاماً على الاتحاد الأوروبي أن يعزز عملية التنسيق المؤسسي والمالي. فالاتحاد الاقتصادي غير قادر على العمل بالشكل اللائق ما لم يكن مدعوماً بأعراف مالية ملزمة فضلاً عن التكامل السياسي المطلوب. وكما أثبتت أزمة الديون السيادية، فإن اليورو يحتاج إلى آليات قادرة على مواجهة الصدمات غير المتناسبة، وهذا يعني ضمناً إنشاء خزانة مشتركة. وتتلخص الخطوة الأولى المهمة في مواجهة هجمات المضاربة التي تعانيها اقتصادات منطقة اليورو اليوم في الالتزام بقدر أعظم من تقاسم المخاطر ومنح البنك المركزي الأوروبي سلطات أكبر. كما يتطلب الأمر إبرام ميثاق استقرار أكثر صرامة وقوة من أجل تحقيق قدر أعظم من التكامل.
وأخيرا، طُرِحَت هذه التحديات في إطار قمة الاتحاد الأوروبي الحاسمة التي عقدت في كانون الأول (ديسمبر)، حيث حاول زعماء أوروبا التوصل إلى حل لأزمة الديون السيادية يضمن استقرار منطقة اليورو. وكان الدرس الرئيسي واضحا: فإذا كنا راغبين في إخراج الاتحاد الأوروبي من هذه الأزمة وقد أصبح أكثر قوة، فلا بد أن يحرص أي اتفاق على إيجاد التوازن بين التقشف والحاجة إلى تحفيز الاقتصاد. ببساطة، من دون النمو وزيادة فرص العمل، لن ينجح أي حل للمشاكل التي تواجه منطقة اليورو اليوم.
وعلى وجه الخصوص، يتعين على اقتصادات منطقة اليورو أن تربط استراتيجيات النمو لديها بالقدرة التنافسية في الأمد البعيد، وهو الأمر الذي يتحدد في نهاية المطاف وفقاً للقيمة المضافة للسلع والخدمات. والواقع أن الأسواق الناشئة تدرك هذه الحقيقة: ففي غضون فترة قد لا تتجاوز 15 عاما، ستستحوذ الصين والهند على 20 في المائة من الإنفاق العالمي على الاستثمار في مشاريع البحث والتطوير، أي أكثر من ضعف حصتهما الحالية.
وفي الوقت نفسه، سوف يواجه الاتحاد الأوروبي قيوداً ديموغرافية خطيرة: ففي عام 2025، ستمثل أوروبا 6.5 في المائة فقط من سكان العالم، مقارنة بنحو 61 في المائة في آسيا، وسوف يكون متوسط عمر السكان في الاتحاد الأوروبي 45 عاما، مقارنة بنحو 28 عاماً في الهند، و37 عاماً في الصين، و38 عاماً في الولايات المتحدة. وفي غياب الاستراتيجيات المناسبة في التعامل مع الهجرة، والتكامل، والرعاية الصحية، والتعليم، وما إلى ذلك، فسيتراجع النمو الأوروبي وقدرته التنافسية، وستتفاقم التوترات الاجتماعية وتتكاثر.
كما يتعين على أوروبا أن تسهم في إصلاح النظام التقليدي للعلاقات الدولية. فقد تم تصميم المؤسسات المتعددة الأطراف القائمة، حيث تتناسب مع عالم متلاش يرتكز على الغرب. وفي الوقت نفسه، فإن تشتت القوى، ودرجة الاعتماد المتبادل، والبعد الهائل من التحديات التي تواجه العالم، يتطلب إدارة عالمية فعّالة ومشروعة وخاضعة للمساءلة. والواقع أن العجز عن التوصل إلى الإجماع بشأن قضايا ملحة، مثل القمع الداخلي في سورية، أو مشاكل مزمنة مثل تغير المناخ، يسلط الضوء على التعقيد (المتزايد) الذي يميز الحكم العالمي والمسؤولية العالمية.
إن استيعاب مؤسسات اليوم في القوى العالمية الجديدة يشكل تحدياً رئيساً لا يمكن تأجيله في عام 2012. على سبيل المثال، مع استعداد صندوق النقد الدولي للمراجعة العامة للحصص في عام 2014، فإن أوروبا تُعَد الكيان الأفضل وضعاً على مستوى العالم للدعوة إلى التعددية الفعَالة وتيسير التكيف والتوصل إلى اتفاق من خلال تبني موقف مشترك لتصحيح فرط التمثيل في عالم اليوم.
إن التحدث بوضوح من شأنه أن يمكن أوروبا من تعزيز مصالحها بقدر أعظم من النجاح من خلال تطوير الشراكات، ليس فقط مع الحلفاء التقليديين مثل الولايات المتحدة، بل أيضاً مع الزعامات العالمية الجديدة مثل الصين والبرازيل، واللاعبين الاستراتيجيين مثل تركيا وروسيا، ومع التكتلات الإقليمية المتزايدة الأهمية والتي تتشكل حول هذه القوى الجديدة. ففي الشرق الأوسط ــــ المنطقة التي لا تمتع بمدرج هبوط واضح، خلافاً لأوروبا الشرقية ــــ يشكل الدعم الأوروبي ضرورة أساسية لبناء إطار إقليمي جديد.
لا أحد يستطيع أن يزعم أن التصدي لكل هذه التحديات سيكون سهلاً يسيرا. فكل الطرق لا تخلو من المرتفعات والمنخفضات، تماماً كما تشكل كل أزمة درساً جديدا.
في عام 2012، لا بد أن يدور الدرس حول أهمية تبني قدر أعظم من التكامل السياسي والتنظيم المالي، وأهمية الإطار المؤسسي المشروع والشفاف، والإجماع. ومن المؤكد أن كل المشاكل قابلة للحل إذا سلطنا عليها القدر الكافي من الضوء وحللنا الموقف من خلال رؤية استراتيجية واضحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق